راوحت نسبة الإنفاق الحكومي إلى إجمالي الناتج المحلي خلال العقد الماضي بين 26.4 في المائة المتحققة خلال 2008 كأدنى نسبة، و38.5 في المائة المتحققة خلال 2014 (بلغ إجمالي الإيرادات الحكومية خلال الفترة 2005-2014 أعلى من 8.8 تريليون ريال، وإجمالي المصروفات الحكومية نحو 6.8 تريليون ريال). لهذا يعد الإنفاق الحكومي هو المحرك الرئيس للأداء الاقتصادي، فيما لا تزال مساهمة تنوع القاعدة الإنتاجية لدينا تراوح دون نسبة الـ 12 في المائة منذ أكثر من 45 عاما، أي منذ بدء عمل المخطوطة الأولى للخطط التنموية التي نعاصر اليوم نسختها العاشرة.
تعد النسب المذكورة أعلاه جيدة إلى حد بعيد، إذا ما قارنتها بالحالة التي تأخذ في الاعتبار فاتورة التحفيز والدعم الحكوميين للاقتصاد (الدعم على استهلاك الطاقة والمواد الغذائية والاستهلاكية)! ففي حال أضفت فاتورتها الباهظة على الميزانية العامة، والتي تقدر خلال عام 2014 بنحو 450 إلى 500 مليار ريال، فإن نسبة الإنفاق الحكومي إلى إجمالي الناتج المحلي سترتفع إلى نحو 56 في المائة، وهي النسبة غير الهينة على الإطلاق التي تكشف لنا حجم الاعتماد الكبير جدا على الدور الحكومي، مقابل ضعف قاعدة الإنتاج المحلية المفترض أن ينهض بقوامها القطاع الخاص، غير أنه لم يوفِ بعد بهذا الهدف التنموي الاستراتيجي، بل تكشف قوائم الدخل السنوية لأكبر الشركات فيه اعتمادها شبه المطلق على المناقصات الحكومية، أو الاستفادة الكبيرة من المحفزات والدعم الحكومي، أو عليهما معا.
رغم كل ذلك؛ قد يكون الوضع الاقتصادي أعلاه هينا بعض الشيء مقارنة بما سيأتي ذكره، إذ يجب الأخذ في عين الاعتبار أين يذهب الإنفاق المالي الهائل المشار إليه أعلاه، هل يبقى داخل حدود الاقتصاد الوطني فينعكس أثره في التنمية ومستوى دخل المواطن، أم أنه يتسرب إلى خارج الحدود؟ وبالنظر إلى البيانات الرسمية المنشورة حول تحويلات العمالة الوافدة وفاتورة الواردات، سنكتشف أنها أخذت تسجل ارتفاعات متتالية طوال الفترة نفسها 2004 – 2015 (بلغ مجموع التسرب الاقتصادي للفترة نحو 5.4 تريليون ريال)، إلى أن وصلت خلال عام 2014 فقط لنحو 800.1 مليار ريال (153.3 مليار ريال كتحويلات للعمالة الوافدة، ونحو 646.8 مليار ريال كواردات)، أي ما يمثل 27.4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي (ونحو 50.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي). تكتمل الصورة الآن؛ أن محركات أداء الاقتصاد الوطني تسير بدعم تتجاوز نسبته 83.0 في المائة بالاعتماد على: (1) الإنفاق الحكومي. (2) التحفيز والدعم الحكومي. (3) العمالة الوافدة. (4) الاستيراد المنتج والمصنع في الخارج. كما تعني البيانات الرسمية السالفة الذكر؛ أن الاعتماد على كفاءة الأداء محليا لا يتجاوز نسبة 17 في المائة، وقد تكون أدنى من ذلك أيضا إذا أخذ في الاعتبار الآثار غير المباشرة للإنفاق والدعم الحكوميين، والدور الذي تضطلع به نشاطات اقتصادات الظل المسيطر عليها من قبل العمالة الوافدة!
الباعث على القلق بصورة كبيرة جدا في كل ما تقدم ذكره؛ (1) أن الإنفاق الحكومي يعتمد في تمويل إيرادات الحكومة على عوائد النفط بنحو 90 في المائة. (2) وأن التحفيز والدعم الحكوميين عدا أنهما أوجدا قطاعا خاصا هشا جدا (وهو المحك الحقيقي الذي يجب اختباره عند عمليات التخصيص)، أنه يتم في الوقت الراهن بصورة معممة لا مخصصة، فالمستفيد الأكبر منه في الوقت الراهن هي الشرائح الاجتماعية الأعلى دخلا والاستثمارات الأجنبية وشرائح واسعة من السكان غير السعوديين، مقابل محدوديته جدا بالنسبة للشرائح الاجتماعية المستهدفة به في الأصل! وهو ما انعكس كما سأوضح لاحقا بنتائج سلبية لم تكن في الحسبان. (3) أفضى ما تقدم إلى تشكل كيانات ضخمة في القطاع الخاص لا عمل لدى أغلبها إلا التكسب من المناقصات الحكومية، أو التحفيز والدعم الحكومي أو كليهما معا، وفي الوقت ذاته قياسا على تدني درجة تقنيتها والمهارات اللازمة للعمالة لها، قامت باستقدام الملايين من العمالة الوافدة المتدنية التعليم والمهارات، وصل تعدادها حتى نهاية 2014 إلى نحو 8.5 مليون عامل وافد، عدا العمالة غير النظامية التي كشفت عنها الحملات التفتيشية خلال العامين الأخيرين أنها تتجاوز خمسة ملايين عامل غير نظامي! (4) كما أفضى هذا الشكل غير الإنتاجي للقطاع الخاص إلى زيادة الاعتماد على استيراد احتياجاتنا كافة من السلع والخدمات الإنتاجية من الخارج، عوضا عن الاعتماد على مئات المليارات من الريالات المستثمرة في ذلك القطاع، والملايين من العمالة الذين تم استقدامهم من خارج الحدود! مقابل تصدير صادراتنا للخارج، التي تصل نسبة المواد الخام غير المصنعة فيها إلى نحو 90 في المائة. (5) كان طبيعيا جدا وفقا لكل ما تقدم من نتائج؛ أن تظهر على السطح الاقتصادي المحلي ما نواجهه جميعا من تحديات تنموية جسيمة، من أبرزها: (5-1) ارتفاع معدلات البطالة (19.4 في المائة بنهاية 2014). (5-2) تفاقم أزمة الإسكان بسبب غلاء أسعار الأراضي والعقارات، نتيجة تركز أغلب الثروات محليا في الأوعية العقارية ذات المكاسب الأعلى عوضا عن تشغيلها في نشاطات اقتصادية منتجة، واستفادتها من اتساع التشوهات في السوق العقارية سواء عبر الاحتكار أو عبر المضاربات بالأموال وتدويرها. (5-3) زيادة التباين في مستويات الدخل بين مختلف شرائح المجتمع، فالشرائح الاجتماعية المتوسطة ذهب أغلبها لما دون ذلك، نتيجة كل ما تقدم مع تآكل الدخل الحقيقي لها لتضخم أسعار المساكن وإيجاراتها، وفي الوقت ذاته تعاني في الحصول على فرص العمل الملائمة من حيث الدخل والتأهيل “تورط أغلبها في التوظيف الوهمي”، وكلاهما أسهم في زيادة الضغوط حتى على أرباب الأسر ذوي الدخول الجيدة؛ لزيادة الأعباء المعيشية عليهم إما لإعالتهم العاطلين عن العمل، أو لزيادة فاتورة إيجارات المساكن، أو لزيادة الأقساط المالية الشهرية لتملكها حال اشترى مسكنه بالأسعار المتضخمة الراهنة.
الآثار الاقتصادية لكل ما تقدم تتجاوز بكثير جميع ما تقدم ذكره أعلاه على سبيل المثال لا الحصر، ومؤدى الحديث باختصار شديد؛ أن اقتصادنا الوطني في حاجة ماسة لا تحتمل التأجيل إلى إعادة تصميم وبناء سياساته الاقتصادية دون استثناء، وهو ما تم ولا يزال المطالبة به منذ أكثر من عقدين من الزمن.
وتيرة الأداء الاقتصادي الراهن والسياسات المرتبطة به، تسير بنا عاما بعد عام إلى عكس ما نصبو إليه من زيادة إنتاجية وكفاءة الاقتصاد واستقلاليته عن الاعتماد على النفط والعمالة الوافدة واستيراد منتجات العالم الخارجي، ولا يدفع الثمن الباهظ لكل هذه النتائج السلبية سوى استقرارنا الاقتصادي والمجتمع السعودي دون استثناء.
إنها المهمة الرئيسة الأولى والأقدم زمنيا على عاتق وزارة الاقتصاد والتخطيط؛ فهل لديها خريطة طريق للحل والخروج من تلك الدوامات الاقتصادية، أم لا؟! والله ولي التوفيق.